في البدء، لم تكن التكنولوجيا سوى أداة… وسيلة نُسرِّع بها الخطى، نقرّب بها المسافات، ونخفف بها أعباء الحياة. كانت مجرد آلة... لكننا لم نكن نعلم أن هذه الآلة ستتحول إلى صديق، ثم إلى ملاذ، ثم إلى مرآة… ثم إلى قفص.
لقد طرقت التكنولوجيا أبوابنا بهدوء، لم تقتحم، ولم تصرخ. جاءت على هيئة رسالة نصية، على هيئة إشعار، على هيئة صورة تظهر ثم تختفي. لم ننتبه، لكننا فتحنا لها الأبواب كلّها، حتى تلك التي لم نفتَحها يومًا لأصدقائنا.
صرنا نُحادث الشاشات أكثر مما نحادث أنفسنا. نضحك وحدنا أمام هاتف صغير، ثم نطفئه ونعود إلى صمتٍ داخلي لا يُحتمل. إننا في زمن مزدحمٍ بالاتصال… لكنه موحش. كم من الأحاديث دارت، وكم من الإعجابات وُزِّعت، لكن كمًّا هائلًا من المشاعر تاه في الطريق!
لم نعد نتأمل وجوه أحبابنا، فثمة وجوه كثيرة تتزاحم على الشاشات. لم نعد نصغي بقلوبنا، لأن الإشعارات لا تنتظر، وهي دائمًا أكثر إلحاحًا من مَن نحب. لقد تكرّر هذا الشعور في إحدى لحظات الخذلان التي وصفتها، حين تبدو التكنولوجيا مخرجًا لكنها تتركنا أعمق في الوحدة.
لقد بتنا نخاف الفراغ، لا لأننا نخشاه، بل لأننا لا نعرف كيف نكون فيه. قبل سنوات، كان للفراغ طعمُ راحة وتأمل، الآن لا نطيقه إلا إذا كان مصحوبًا بشاشة مضيئة. صارت لحظة الانتظار على طاولة المقهى لحظة قلِقة، لا تُحتمل إلا بالهاتف. صارت الوحدة خطرًا يجب التغطية عليه بصورة، أو صوت، أو تمرير لا نهائيّ في منصّاتٍ لا تنام.
لكن، هل هذه هي الوحدة حقًا؟ أم أن الوحدة الحقيقية بدأت حين امتلأت أيدينا بالتكنولوجيا، وفرغت قلوبنا من الأنس؟
أصبحنا نحسب القرب بعدد الرسائل، لا بنبض المشاعر. نحكم على الحب من سرعة الرد، لا من عمق الحضور. كما قلت في تأملك حول الحيرة والتيه، صرنا نبحث عن أنفسنا وسط زحام لا يشبهنا، وتزيد التكنولوجيا هذا التيه إن لم نكن واعين له.
ووسط هذا كله، هناك قلب بشري، يُصارع. قلب لم يُخلق ليكون افتراضيًا. قلب يحنُّ إلى لمسة يد، إلى نظرة صامتة، إلى صوت حيٍّ غير مُعدّل، غير مرمَّز. قلب يريد أن يُرى… لا أن يُقرأ.
التكنولوجيا لم تكن الشرّ، ولم تكن الخطيئة. هي في النهاية انعكاسٌ لما نختار. المشكلة ليست في الآلات، بل في من يتنازل عن إنسانيته طواعية. لقد غرقنا في عالم رقمي لأننا لم نعد نثق بالعالم الحقيقي. صرنا نُسَجّل اللحظة قبل أن نعيشها، نُجمّل الصورة قبل أن نحسّها، نُخطط للمنشور قبل أن نُخطط لمشاعرنا.
لكن رغم كل ذلك، ما زال فينا شيء أصيل، لم تقتله التقنية بعد. ما زال الحنين حيًا، يهمس فينا حين نُطفئ الهاتف لوهلة. ما زال فينا شيء يُحب الرسائل المكتوبة بخط اليد، والمقاهي التي لا يوجد فيها "واي فاي"، والضحكات التي لا تحتاج إلى فلتر صوت أو صورة.
وربما… ما زال فينا رغبة بالنجاة. رغبة في أن نستخدم التكنولوجيا… دون أن نكون مُستخدمين فيها.
أن نستعيد السيطرة على وقتنا، على مشاعرنا، على وعينا. أن نُخصص للتكنولوجيا مكانها: كوسيلة، لا كغاية. كخادم، لا كسيّد.
فالتواصل الحقيقي لا يحتاج شبكة… بل قلبًا صادقًا. والراحة لا تأتي من تمرير الأصبع على شاشة… بل من تمرير اليد على قلبٍ مُحب.
الخاتمة:
في عالمٍ صاخب بالشبكات، لعلّ أعظم ما يمكننا فعله… هو أن نعود إلى ذواتنا، أن نُربّي وعينا، ونختار ما يبقينا بشرًا. فليس كل ما يُضيء… ينير.
بتوفيق
ردحذف